الانضباط العسكري
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الانضباط العسكري
المقدمة
الانضباط كلمة شائعة في حياتنا اليومية. يستخدمها الناس، عادة، للتعبير عن مدى إتباع النظام والالتزام به. ويستخدمها العسكريين للدلالة على كفاءة الجيوش وقدراتها، وعلى مدى نجاح القيادة وفعاليتها.
والانضباط يعنى الالتزام، وهو أمر ضروري للنجاح في كافة أوجه الحياة، وهو سر تقدم الأمم، ونجاح الأعمال في كافة أنواع التنظيمات، سواءً كانت عسكرية أم مدنية أم غيرها..
ويعتقد بعض الناس أن الانضباط يقترن "بالعقاب"، على أساس أنه الوسيلة الفّعالة لتحقيقه، ولكن مفهوم الانضباط أشمل من ذلك؛ فهو يعني إطاعة الأوامر والتعليمات، واحترام القواعد والقوانين، والتقيد بالنظام، والالتزام بالتقاليد والأعراف؛ وأنه من الأفضل ألاّ يُكتسب الانضباط من توقيع العقاب المستمر، ولكن بالتوجيه والنصح والإرشاد.
والانضباط في القوات المسلحة، بمثابة الروح في الجسد، وهو السّلاح الخفي الذي يحقق النصر في المعركة، والعنصر القوي في نزع الخوف وزرع الشجاعة في نفوس المقاتلين. وتتوقف كفاءة الجيوش وقدراتها، على مدى تحلّيها "بالانضباط" الجيد، لذا يهدف القادة العسكريين، دائماً، إلى تنمية روح الانضباط بين رجالهم، ويعتبرونها مسألة حياة أو موت.
ويخُطئ من يرى أن الانضباط مقصورُُ على القوات المسلحة، وينسى أن الدين الإسلامي الحنيف، هو دين انضباط في المقام الأول، فمثلاً:
· أليست الصلاة في أوقاتها، والاصطفاف خطاً متراصاً في صلاة الجماعة، واتبّاع الإمام، وعدم الخروج من الصلاة أو السبق في حركاتها، نوعاً من الانضباط؟
· أو ليس الصيام نوعاً من ضبط النفس الذاتي، والتحكم في الشهوات، والصيام في وقت محدد والإفطار في وقت محدد، نوعاً آخر من الانضباط؟
· والحج، مواقيته ومناسكه، أليس نوعاً من الانضباط؟
· أليست نظافة الجسم وعفة اللسان، وهي من الأساسيات في الدين، نوعاً من الانضباط؟
· أليس تحديد الدين الإسلامي للأُسلوب الصحيح، للتعامل بين أفراد المجتمع، صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، نوعاً من الانضباط في المعاملات؟
· إذاً فالدين الإسلامي الحنيف يحثنا على الانضباط، مظهراً وجوهراً.
وإذا انتقلنا من الدين إلى التربية في الأسرة، لوجدنا أن التربية السّليمة تقوم على الانضباط: احترام الصغير للكبير، وعطف الكبير على الصغير، تقبل التوجيه والنصح من الأكبر للأصغر، والسمع والإطاعة من الأصغر للأكبر، والترابط والالتفاف حول رب الأسرة، والدفاع عن كيانها.
أليس هذا كله نوعاً من الانضباط؟
لذلك يمكننا القول دائما: "إذا وجدت فرداً منضبطاً فاعلم أنه من أسرة عُنِيَتْ بتربيته التربية الصحيحة، ومن أسرة لها مبادئ وقيم وتقاليد. أسرة جديرة بالاحترام والتقدير. وخلاف ذلك صحيح".
ولا تقل أهمية وجود الانضباط في المنظمات المدنية، عنها في المنظمات العسكرية، بل هي أشد احتياجاً إلى وجود الانضباط. ويتوقف نجاح منظمات الأعمال بكافة أنواعها وأشكالها، سواء كانت إنتاجية أم خدمية أو غيرها، على مدى وجود "الانضباط" بين صفوف العاملين بها.
كما أن نجاح الإدارة في ممارستها لعملها، وتحقيقها لأهدافها يعتمد بدرجة كبيرة على مدى تحليها بروح الانضباط.
المبحث الأول
أولاً: مفهوم الانضباط وسماته
الانضباط اصطلاح ذو مفهوم شامل، وهو وليد رياضة النفس على النظام، يحتوي على الكثير من السّمات والعادات والسّلوكيات الطيبة والحميدة، التي يتحلى بها الشخص، أو التي تسود داخل الجماعة.
ويخُتلف كثيرٌ في تعريف معنى الانضباط، إلا أن أغلب ما قيل في توضيح معناه، يدور في إطار المفهوم العام للانضباط.
ويمكن تعريف الانضباط ، بأنه الحالة العقلية والنفسية، التي تجعل الإطاعة والسّلوك الصحيح، أمراً غريزياً في النفس، مهماكانت الظروف. وهو يقوم على أساس الاحترام والولاء للسلطة القانونية.
وينشأ الانضباط أساساً من التربية السليمة، ويُصقل بالتدريب واكتساب العادات النبيلة.
ويُعَدّْ الانضباط مظهراً أساسياً من مظاهر الحياة العسكرية، ودلائله العامة في الرجل العسكري والوحدة العسكرية: النشاط والحيوية في المظهر، وفي أداء العمل، والنظافة، والأناقة في الملبس، والأمانة، والنظام، والبعد عن الفوضى، وحسن ترتيب المهمات وأماكن الإقامة، وحسن التصرف، وسمو الخلق وعفة اللسان، واحترام الرؤساء، وتنفيذ الأوامر والتعليمات، التي يصدرها الرؤساء بنصها وروحها، وبكامل الرضا، وفي أقصر وقت ممكن.
1. مفهوم الانضباط
أ. الانضباط: هو تدريب منظم، وتمرين، وتنمية، وضبط: للقوي العقلية، والمعنوية، والطبيعية، وهو نظام تعليم وضبط، يغرس في الذهن الخضوع للسلطة المقررة، وضبط النفس، والسلوك السوي المنتظم.
وفي توضيح آخر لمفهوم الانضباط: يعني الانضباط بمفهومه اللفظي، الجدية، والالتزام، والدقة، وحسن أداء الواجب، واحترام حقوق الآخرين، والقدرة على التمييز بين ما هو مشروع وجائز، وبين ما هو محظور وغير مباح.
ب. والقائد ذو "الانضباط الجيد" هو مَنْ يستطيع أن يؤثر في جماعة من الناس، كي تحافظ بنفسها، على النظام والانسجام.
ج. وغالباً ما يقع الالتباس بين معنى "الانضباط" ومعنى "الإجبار":
فالإجبار يستند في تنفيذه إلى السلطات المقررة: كالوالدين، والمعلم، والمدير، والحكومة. فهؤلاء يقولون: "عليك أن تعمل كذا وكذا وإلاّ! " فالسلطات المقررة تستطيع استخدام "العصا" (أي الوعيد بالأذى) مادياً، أو معنوياً، لتأييد أوامرها.
لكن أبسط تجارب الحياة أثبتت، أن تأثير الإجبار لا يدوم أكثر من دوام المقدرة على استخدام العصا، مادياً أو معنوياً.
د. وهناك فرق شاسع، بين "الانضباط" الذي يقيد النفس، ويوغر الصدر، وبين "الانضباط" الذي يكون حافزاً مفيداً. وأن ما ينشده الناس جميعاً هو "الانضباط الإيجابى" القائم على الاقتناع، وليس "الانضباط السلبي" القائم على الخوف من العقاب، وإنه لمن الأفضل ألاَّ يُكْتَسَبْ "الانضباط" من توقيع العقاب المستمر، ولكن بالتأثير في الأفراد ليفعلوا الصواب دائماً.
هـ. إن كفاءة المنظمات، على اختلاف أنواعها وأشكالها، عسكرية كانت أم مدنية، وقدرتها تتوقف على وجود "الانضباط" الجيد، وإنه لمن الأفضل أن يكون مصدر "الانضباط" في المنظمة، منبعثاً مما لدى الأفراد من "انضباط" قائم على الاقتناع، والرغبة في العمل، وليس على الرهبة، أو الخوف من العقاب. فالانضباط ينمو بإتباع أسلوب التوجيه والإرشاد والتعليم، وليس بالعقاب. فإذا كان الانضباط قائماً على التهديد بالعقاب فقط، اتجه الأفراد إلى التكاسل، والتحايل، حالما يحسّون أنهم في منأى من العقاب، أو انفضاح أمرهم.
وهكذا، يفقدون القدرة على الابتكار الشخصي، والأمانة، ويحتاجون إلى المراقبة الدائمة. ويقتضي الأمر أن "تسوقهم" بدلاً من أن "تقودهم".
وليس فيما تقدم إيحاء، بأن لا يُنتهج أسلوب العقاب في "الانضباط"، في جميع الحالات.
فإذا أسندت مقاليد منظمة ما، إلى شخص يقودها، ثم رأي ما يبعثه على الاعتقاد بأنه لا يسهل القبض على زمام أفرادها، وأن أسلوب الإقناع لم يجد الاستجابة التامة والتقدير من أفراد المنظمة، أصبح من الحكمة والسداد أن يواجههم مواجهة جريئة، ويغير سياسته، وأن يتخذ فوراً الموقف الحازم، حتى تنضبط الجماعة. وليس ثمة ضرر، إذا ظنوا به الشدة والعنف، إلى فترة من الزمن، فإذا ما أدركوا أن قائدهم رجل يعرف كيف ينهض بتبعته، وأنه قادر على قيادتهم بحزم وشدة، مع عطف ورأفة، كُلِّ في وقته، أصبح من السهل عليه إرخاء العنان وإطلاق الزمام.
على أنه يستطيع أن يجذبه مرة ثانية إذا اقتضى الأمر، ولكن ليس من المحتمل أن تلجئه الظروف إلى ذلك الإجراء.
ومن المهم أن نتذكر أننا لن نستطيع شد الزمام، إذا كنا قد سلمناه للجواد نفسه. ولهذا يجب أن لا تُترك هفوة واحدة دون تقويمها، ولا أن تقع مخالفة فردية دون المحاسبة عليها، ولا أن يسمح لأحد بأن يبيح لنفسه حرية ليست مقررة، بل يجب مؤاخذته عليها فوراً.
أما إذا تسامح القائد في هذه الأمور، أو غض الطرف عنها، خرج زمام الجماعة كلها من يده، في مدى أيام قليلة.
ولذلك، يجب مراقبة الهفوات الصغيرة، وأخذها بالعنف، فإن هذا يمنع كبيرها من الوقوع.
وهذا هو أهم درس يجب أن يعيه رجل "الانضباط".
فهناك ميل عام إلى إغفال المسائل الصغيرة، بدعوى إن الجماعة سوف تقدر هذه الإشارة الودية، وتتفادى التورط في الذنوب الكبيرة الخطرة.
ولكن هذه مغالطة لها أسوأ الأثر. فإذا وقعت في المنظمة جرائم خطيرة، كان ذلك من الأسباب التي ترجع إلى التغاضي عن الذنوب الصغيرة.
وعلى ذلك، فالقاعدة الذهبية لرجال "الضبط والربط" تتمثل في الآتي:
"عليك أن تُعنى بالأمور الصغيرة، فتعنى الأمور الكبيرة بنفسها".
2. سمات الانضباط
أ. الانضباط سمة من سمات الشعوب الراقية المتقدمة، ووجود الانضباط في مجتمع، دليل على تقدمه وازدهاره.
وانعدام الانضباط وإشاعة الفوضى في مجتمع، مؤشر على انحدار مستواه وتأخره.
والانضباط الذي يحقق التقدم والانطلاق، يقوم على أساس أن أداء الواجب يسبق، دائماً، طلب الحق، والالتزام بعدم الاستثناء في أي شيء، وفي أي مجال، وتحت أي ظرف: وترتبط إنتاجية كل المؤسسات والمنظمات، بمستوى انضباط كل العاملين بها، بدءاً من أقل رتبة بها، وانتهاءً بقياداتها.
ومما تقدم، فإن التحلي بالانضباط أصبح ضرورة من ضروريات حياة الشعوب. ومن دون الانضباط، لن تستطيع الشعوب ضمان إنجاز خططها التنموية، في كافة المجالات.
ب. لأن الفرد المنضبط، أساس المجتمع المنضبط، ومن ثم، يجب أن يتحلى الناس جميعاً بالانضباط. ولكي يكون الشخص مثالياً في الانضباط، يجب أن يتحلى بمجموعة من الصفات، التي منها ما يلي:
(1) القدرة على ضبط النفس
ضبط النفس من أهم الصفات، التي يجب أن يتحلى بها الشخص، الذي يتولى قيادة جماعة من الناس، أو يشرف عليهم. فالقائد الناجح ينبغي أن ينشد "الأسمى" من كل شيء.
وأسمى أنواع الانضباط، هو القدرة على ضبط النفس.
ويعني ضبط النفس القدرة على التحكم فيها وقت الشدائد، وترويضها والبعد عن الأهواء والأغراض.
(2) العمل بروح الفريق
إن الشخص الذي يتمتع "بروح الفريق" في العمل، يعتبر مثالياً في الانضباط.
كما أن القائد، الذي يعمل على بناء روح الفريق، يعتبر قائداً فعالاً. فعندما تسود "روح الفريق"، بين أعضاء أي جماعة، بحيث يشعر كل فرد بأنه وباقي الأفراد كشخص واحد، ينشأ من هذا باعث شخصي يمنع العضو داخل الجماعة من أن يرتكب ما يخالف القواعد، إذ أن المرء ـ عادة ـ لا يفعل شيئاً ضد نفسه.
كما أن إحساس الفرد أنه ضمن فريق واحد، وأنه جزء أساسي من وحدة متكاملة وقائمة بذاتها، وأنه مسؤول تماماً مثل باقي أعضاء الفريق، يُنمِّي لديه الرقابة الذاتية.
وكذلك لا يقترف أي فرد عن رضى، ما يغضب قائداً أو رئيساً يعرفه شخصياً، ويحترمه، ويقدّر قيمة الحصول على رضائه.
فالجماعة، إذن، تبدأ بالفرد الذي هو جزء منها.
ويجب أن يكون واضحاً، أن روح الفريق لا تنمو في الأفراد، إلاّ على احترام النفس وضبطها، والثقة بالنفس، ورياضة النفس (أخذها بالضبط والربط).
وعندما تتيقظ تماماً عاطفة الولاء للجماعة، يمكن التأثير على كل فرد فيها تأثيراً ناجحاً يُنمِّي تلك الصفات، ويجعل الإنسان يعمل أكثر من الواجب المفروض عليه بمقدار كبير.
لأن المجد والنجاح، الذي تدركه الجماعة، يعود على الأفراد الذين تتألف الجماعة منهم. ومما تقدم، يجب أن يكون الهدف الدائم للقادة والرؤساء، تنمية روح الفريق في مرؤوسيهم، حتى يكونوا أعضاءً مؤثرين في الجماعة.
(3) الروح المعنوية العالية
إن الروح المعنوية أقوي سلاح يتسلح به الإنسان، والروح المعنوية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانضباط، وهما صفتان معنويتان متلازمتان، وتؤثران تأثيراً مباشراً على التحفيز والروح القتالية.
ولا يكفي أن يتزود أي جيش مادياً، ولكن الأهم أن يؤَمَّنْ معنوياً وانضباطياً، وخير للجنود أن يخوضوا غمار المعركة يعوزهم التأمين المادي، على أن يخوضوها تنقصهم الروح المعنوية والانضباط. وفي الحروب يظهر الأثر الكبير للروح المعنوية والانضباط، فيستطيع كل طرف هزيمة خصمه، إذا نجح في تحطيم روحه المعنوية.
وقد أدركت ألمانيا هذه الحقيقة في الحرب العالمية الثانية.
ولا يمكن أن تتوفر الروح المعنوية بمعناها الصحيح، إذا لم توجد الثقة بالنفس، فالفرد لا بد أن
يشعر أنه متفوق مادياً وانضباطاً وتدريباً، حتى ترتفع روحه المعنوية.
ومما تقدم، يتضح أن الشخص الذي يؤدي عمله بروح معنوية عالية، يتمتع بانضباط عال. وأنه لا انضباط من دون روح معنوية عالية، ولا معنويات مرتفعة من دون انضباط.
والقائد الفعال، هو الذي يعتني بالروح المعنوية والانضباط.
(4) الأخلاق العالية
الانضباط أخلاق عالية، وتقاليد سامية، تقوم على الشجاعة والشرف، والتفاني في أداء الواجب، والصبر، والحزم، والحسم، والأمانة، وإنكار الذات، والمقدرة على مواجهه الحقائق.
وتتنافى مع الكذب والرياء والنفاق. والأخلاق يجب أن تكون عماد الشخصية، فالشخص الذي له من الأخلاق نسبة مائة في المائة، ومن الذكاء خمسون في المائة، أوفر حظاً ممن ذكاؤه مائة في المائة، وخلقه خمسون في المائة فقط.
والشخص الذي يشذ في عاداته قد يستطيع أن يحرز جانباً من محبة بعض الناس، إذ إِنه يستهوي أحط غرائزهم، بما يبديه لهم من تشجيع، ولكنه لن يحصل على ثقة واحترام جماعة كبيرة من الرجال المهذبين.
(5) الثقافة العامة
صفة أساسية يجب أن يتحلى بها الناس جميعاً، خاصة القادة منهم، ومن يتولى الرئاسة أو الإشراف على جماعة من الناس، فالثقافة العامة هي المدرسة الحقيقية لغرس الانضباط.
(6) القدوة والمثل
يجب أن يتحلى القائد أو (الرئيس)، في أي موقع من مواقع العمل، بالانضباط، وأن يكون القدوة والمثل لمرؤوسيه في كل تصرف يقوم به.
فالقائد ذو الانضباط الجيد يتمتع مرؤوسيه بروح الانضباط العالي، وخلاف ذلك صحيح. ففاقد الشيء لا يعطيه. والقائد يمكن أن يصل إلى غايته، في التأثير في نفوس مرؤوسيه، واكتساب ثقتهم ـ ما لم يراع ـ قواعد خاصة يمليها الإدراك السليم.
ومن المألوف أن تحتفظ الجماعة بانطباعاتها الأولى عن قائدها، مهما كانت حظ هذه الانطباعات.
(7) التفاني في العمل
التفاني في العمل أحد المظاهر الأساسية، لوجود "الانضباط" في المنظمة.
ويحب الإنسان عمله، ويخلص ويتفانى فيه، إذا توافق مع قدراته وإمكانياته.
لذا، يُعد "وضع الرجل المناسب في المكان المناسب" العامل الأساسي لنجاح الإنسان، في عمله.
( إطاعة الأوامر
إطاعة الأوامر وتنفيذ التعليمات، وإتباع القواعد التنظيمية، هي جوهر "الانضباط" في المنظمة.
ويتوقف نجاح الانضباط على مدى إمكانية تنفيذ الأوامر.
فالشخص الذي تضطره الحالة إلى أن يعصي أمراً لا يستطاع تنفيذه، يميل بوجه السرعة بعد ذلك إلى عدم إطاعة الأمر، الذي يستطع تنفيذه.
ويؤكد على ذلك المقولة الشهيرة (إذا أردت أن تُطاع، فمر بما يستطاع).
وبناء على ما تقدم، أصبح واضحاً، أن أفضل أنواع "الانضباط" يكون وليد الاعتبارات التالية:
(1) عندما يعرف "القائد" الأشخاص، الذين تتألف منهم "جماعته".
(2) عندما يعرف أفراد الجماعة، "قائدهم".
(3) عندما يدمج القائد نفسه في جماعته، بكل الطرق الممكنة.
(4) عندما تكون الجماعة كلها فريقاً واحداً، يتلقى الحماسة من روح القائد.
(5) عندما يكون للجماعة مستوى عال من "روح الفريق"، في العمل.
(6) عندما يكون الفريق حسن التدريب، متقد الحماسة، ملحوظ الكفاية.
فإذا أمكن استيفاء هذه الشروط، (وليس استيفاؤها بالأمر المستحيل) اختفت المخالفات، وتحقق الانضباط القائم على الثواب وليس العقاب، وأصبح الأفراد متحمسين للعمل، وزاد تقدم الجماعة نحو تحقيق أهدافها.
ثانياً: الانضباط ونجاح القيادة العسكرية
قامت الجيوش العظيمة في الماضي، على ثلاث صفات أساسية، لم تنقص أهميتها في الوقت الحاضر. وستظل هذه الصفات، دائماً، الأساس الذي يقوم عليه بناء الجيوش القوية القادرة، مهما بلغت الأسلحة والمعدات من تطور تقني.
وهذه الصفات هي: "الانضباط" و"الروح المعنوية" و"روح الفريق".
ويأتي الانضباط على قمة هذه الصفات.
ويُعد وجوده في المنظمات العسكرية، الأساس لنجاح القيادة وفعاليتها، والمحرك الأساسي لدفع المنظمة نحو تحقيق أهدافها المنشودة، والعامل الرئيسي الحاكم في تحقيق الكفاءة العسكرية.
والتسمية الشائعة للانضباط، في محيط العمل العسكري، هو "الضبط والربط". فماذا يعني الضبط والربط عند العسكريين؟ وما مقوماته؟ وما أهم مظاهرة؟ وما العوامل التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط؟
1. مقومات الضبط والربط وأهم مظاهرة
أ. معنى الضبط والربط العسكري
(1) الضبط والربط العسكري هو: إقامة الأوامر وطاعتها بروح قوية، عن تعود واقتناع. أي الإطاعة والسلوك الغريزي السليم تحت كل الظروف، وتتضمن السيطرة على إرادة الفرد لصالح المجموع.
والضبط والربط العسكري، امتداد وتطبيق خاص للنظام، في أي هيئة أو جماعة منظمة. والضبط والربط الحقيقي يتطلب إطاعة القائد، عن تعود وإقناع. هذه الإطاعة التي تؤدي، إذا أحسن ممارستها والتدريب عليها، إلى التصرف السليم حتى في غيبة الأوامر، أو القائد دون أي رقيب.
(2) ونجاح الضبط والربط، يتوقف على فهم القائد لأفراد فريقه أو جماعته، ومعرفة كيفية التعامل معهم، وكيف يكسب ثقتهم، وكيف يعمل على تنمية روح الفريق فيهم، وكيف يغرس الضبط والربط فيهم، وكيف يرفع روحهم المعنوية، وكيف يجعل من أفراد جماعته وحده متماسكة صلبه قوية متعاونة.
فإذا وُجد القائد الجيد، زاد الانضباط، وسلِمت روابط الكيان العسكري، وارتفعت، الروح المعنوية.
إن من واجب كل قائد أن يغرس في أذهان مرؤوسيه روح الضبط والربط؛ وأن المثل الأعلى، الذي يضربه القادة على اختلاف مستوياتهم بصفة مستمرة، من أهم الوسائل في بناء الضبط والربط.
ب. مقومات الضبط والربط العسكري
لا يمكن أن يوجد الانضباط بمعناه الصحيح، إلا إذا توفرت المقومات التالية:
(1) الطاعة
(أ) الإطاعة ركن أساسي من أركان الضبط والربط. ويُقْصَدْ بها الإطاعة التامة المبنية على اقتناع الأفراد بالعادات والتقاليد العسكرية، التي تؤدي إلى التصرف السليم.
ولا يتأتى ذلك إلا إذا تعود الفرد على أداء هذه العادات، والتقاليد، والتصرفات، بطريقة غريزية صحيحة.
ويمكن للقائد أن يغرس في نفوس الأفراد هذه العادات، والتقاليد، بشرح مسبباتها، والدوافع إليها، ثم توضيح أحسن الطرق لأدائها. وبالتكرار الصحيح، ومعالجة أي خطأ في الحال، تصبح هذه العادات والتقاليد غريزة طبيعية، تؤدَى عن اقتناع ورغبة، لا عن خوف ورهبة.
(ب) إن نجاح القائد في غرس عادة إطاعة الأوامر العسكرية، في نفوس رجاله، تعتمد على مدى تدريبه وتعليمه لهم. لذا، يجب تعليم الجندي تعليماً وافياً كيف يؤدي عملاً ما، قبل أن يؤمر بأدائه. فالجندي بطبيعته يندفع نحو إطاعة الأمر، الذي يستطيع تنفيذه.
(ج) ولأن الجهل بمعرفة الأوامر لا يقُبل عذراً في عدم إطاعتها، ولأنه ليس من المعقول أن نتوقع من الجندي حديث العهد بالخدمة العسكرية، أن يتوصل إلى معرفة كل شيء من تلقاء نفسه؛ لذلك تقع على القادة مسؤولية كبرى، في وصول المعرفة بالأوامر للرجال تحت قيادتهم، ومساعدتهم على تكوين عادة البحث عن الأمور، التي يجب عليهم الإلمام بها.
(د) من غير إطاعة لا توجد قيادة. فالإطاعة أوجب الواجبات، ومن دونها لا تنعقد سلسلة القيادة، ولا يكون هناك ضبط وربط. الإطاعة إذن واجب لا هوادة فيه.
وخير مثال على ذلك القائد خالد "ابن الوليد" أمير الجيوش المسلمة التي تأتمر بأمره، يشير إليها فتنهال على العدو، ويظل يتنقل بها من نصر إلى نصر، حتى إذا أتاه أمر الخليفة بأن ينزل عن القيادة، صدع بالأمر في الحال، واتخذ مكانة في الصفوف، تحت إمرة القائد الجديدّ.
(2) القدوة الحسنة
كيفما يكون القائد يكون الجنود.
لذا، يجب أن يتحلى القادة على كافة المستويات بالضبط والربط. فإذا كان القائد قدوة حسنة لرجاله، ويضرب لهم المثل الأعلى في الضبط والربط، فإن رجاله، دون شك، سيقلدونه، ويتخذون منه مثلهم الأعلى، في كل عمل يؤدونه.
(3) المدح والاستحسان وتقدير الفرد
إن إظهار الاستحسان والمدح من القائد لرجاله، سواء كان فردياً أو جماعياً، لو أُحْسِنَ أداء العمل، يؤثر في تقوية أواصر الضبط والربط.
والفرد إذا شعر بأن له قيمته، وأن القائد يقدر شعوره، فإنه يتقبل كل ما يؤمر به، ويشعر بالثقة في نفسه، وفي قادته، وفي الأوامر الصادرة إليه.
(4) الثواب والعقاب
(أ) يتطلب الضبط والربط أن يؤدى كُلٍ واجبه على أحسن وجه، ويمكن أن تغرس الحاجة إلى الضبط والربط في الفرد، بالالتجاء إلى إحساسه وإدراكه، وذلك بأن يكون الضبط والربط مشوقاً إليه.
وفي الحالات القليلة التي لا يفلح فيها الالتجاء إلى إدراكه، يكون الالتجاء إلى العقاب، الذي يجعل الفرد يقدّر الحاجة إلى الضبط والربط.
(ب) ويجب أن يشعر الجندي دائماً، أنه بمحافظته على الضبط والربط، يكون موضع تقدير ومكافأةً من قائده، وأن إهماله في تنفيذ الضبط والربط يعرضه للعقاب.
وهنا يجب أن يقتصر العقاب على من يستحقه فقط، ويجب تجنب المبدأ الخاطئ "الظلم يعم".
وفيما يختص بموضوع العقاب (الجزاء)، يجب أن نتذكر أن الأشخاص الذين نقودهم ونتولى تدبير شؤونهم، هم رجال أكتمل نضجهم، وليسوا أطفالاً لم يستتموا نموهم.
وإن توقيع العقاب هو أخطر إجراء يقوم به الرجل تجاه رجل آخر، والموضوع يستحق أن يتناوله المرء بالحذر الشديد.
وقد وضع "بكاريا"، السنن الآتية عن الجريمة والعقاب، وهي تنطبق مع العصر الذي وضعت فيه، كما أنها تنطبق على العصر الحالي:
(أ) إن أضمن رادع للجريمة، هو تأكد المجتمع من توقيع العقاب، وليس مدى شدته.
(ب) إن البلاد التي اشتهرت بقسوة العقاب، تكون دائماً البلاد التي تقع فيها أفظع الجرائم الدموية والآثام غير الإنسانية، حيث تكون يد القاتل ويد المشرع كلاهما، مُسَيرَّتَان بالروح الوحشية.
(ج) العقاب المعجَّل، هو أنجح القصاص.
(د) كثيراً ما تكون القوانين نفسها، سبباً لارتكاب الجرائم.
(هـ) إن مكافأة الفضيلة تمنع الجريمة.
(5) تحديد الواجبات والمسؤوليات
من أهم مقومات الضبط والربط، مراعاة الفروق الفردية عند تصنيف الأفراد وتوزيعهم على المهن المختلفة المطلوبة، وتحديد الواجبات والمسؤوليات، مع عدم تجاوز طاقة الأفراد وقدراتهم.
ج. أهم مظاهر الضبط والربط العسكري
من أهم مظاهر الضبط والربط العسكري:
(1) السلوك الفردي الصحيح للجنود، داخل وخارج، الثكنات والمعسكرات.
(2) المظهر الحسن للأفراد، والمحافظة على الأوامر والتعليمات الخاصة باللبس، واحترام شعار الجندية وشرفها.
(3) المظهر الحسن للثكنات والمعسكرات.
(4) الإطاعة الغريزية للأوامر، وتجنب التردد في تنفيذها.
(5) كفاءة الجنود في تأدية واجباتهم.
(6) احترام الجنود لرؤسائهم وزملائهم.
(7) المحافظة على الأسلحة والمعدات وصيانتها.
( التصرف السليم، وأداء الواجب بإخلاص، في غيبة الرقيب.
(9) تقبل الجنود للتقاليد العسكرية، والابتعاد عن العادات المدنية السابقة.
2. العوامل التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط العسكري
من أهم العوامل، التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط، داخل المنظمات العسكرية ما يلي:
أ. الروح المعنوية
(1) الروح المعنوية حالة نفسية عقلية وعاطفية، تجعل الفرد يظهر شعوره الخفي في نفسه، فتراه أحياناً قانعاً هانئاً سعيداً، وتراه تارة تعساً يائساً شقياً.
فالصحة، ورضا الله ثم الناس، وراحة الضمير، وخدمة الوطن عن إيمان وعقيدة، من أهم عوامل القناعة، والشعور بالسعادة والنشاط والأمل. والظلم، والخطر، والقلق من أهم العوامل التي تجعل الفرد يشعر باليأس والقنوط، وتجعله عديم الهمة قليل النشاط ولا أمل له.
وتُعد الروح المعنوية من أهم عوامل النصر.
فهي التي تبعث الإيمان بالنصر، والقوة على التغلب على المصاعب والعقبات، وتولّد العزيمة الجبارة التي تواجه الموت بصدر رحب، في سبيل العقيدة الراسخة، والإيمان الثابت، والمبادئ السامية.
(2) إن العامل الأساسي، الذي يكفل المحافظة على الضبط والربط، هو "الروح المعنوية". فالعامل المعنوي يخلق الضبط والربط بين صفوف المقاتلين. ومن واجبات القائد رفع الروح المعنوية التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط.
ويمكن أن نتعرف على الروح المعنوية العالية بالآتي:
(أ) الحماس
هو المجهود الذي يقدمه الرجال متطوعين، لأداء أعمالهم، بدافع قوي يفوق الإطاعة التي يسودها قلة الاهتمام، وعدم الاكتراث، والتهاون، والتكلف، والإطاعة، التي يكون مصدرها الأوامر والتنظيمات فقط.
(ب) الإحساس بقيمة الفرد.
(ج) اعتزاز الفرد بما يكلف به من عمل، في أي مهمة.
(3) للروح المعنوية أثرها الكبير في رفع مستوى الضبط والربط، داخل المنظمات العسكرية. وكلّما ارتفعت الروح المعنوية، ارتفع مستوى الضبط والربط.
ويستطيع القائد أن يخلق الروح المعنوية وينميها داخل وحدته، إذا اتبع التوجيهات الآتية:
(أ) اجعل جنودك يرغبون في الخدمة العسكرية:
ابعث في جنودك روح الإيمان بالخدمة العسكرية، وقيمة الجندي، وشرف الانتساب للجندية، وواجب كل فرد في أداء ضريبة الدم في سبيل عقيدته ووطنه، الذي ترعرع على أرضه، ونعم بنعيمه، وأنه لا بد لكل أمة من جيش يحميها، ويصد عنها أعداءها.
إن الجندي العربي جندي يثق في تعاليمه الدينية، والدين يحث على الجهاد، والقتال في سبيل الله والوطن، وفي سبيل الحق، بما يدفع الجندي للتضحية وأداء الواجب.
كما أن ذكر سير الأبطال الفاتحين فيه ما يلهب حماسة الجندي، ويشجعه على تقبل الخدمة العسكرية.
(ب) اجعل جنودك يفهمون معنى التقاليد، والمظاهر، والأوامر العسكرية الصارمة
اشرح لجنودك معنى الحياة العسكرية، فهم لابُدّ أن يفهموا سبب قسوتها وخشونتها، ويجب أن يفهموا لِم تصدر الأوامر من آن لآخر، ولِم يجب إطاعتها دون تردد.
فإذا اقتنع الجندي بكل هذا، تقبل هذه الأوامر والتقاليد بروح قوية، وإطاعة تامة مقبولة في نفسه، وإذا ما تبين للجنود السبب، تولدت فيهم الثقة بالقائد، ونمت فيهم روح الإطاعة عن رغبة وإقناع، وشعروا بأنهم أفراد يتعاونون في تحقيق هدف موحد، وليسوا آلات مُسَخَرة.
(ج) اجعل جنودك يثقون بأنفسهم، وسلاحهم، وتدريبهم، وقادتهم
اعتن بتدريب جنودك، واكسبهم ثقة بأنفسهم، وبأنهم أحسن الجنود، وأن تدريبهم يتمشى مع أحدث الأساليب، وأن سلاحهم من أحدث الأسلحة في الحروب.
(د) تخير العمل المناسب لكل جندي، وبث فيه روح الاهتمام بعملة، والإخلاص لوحدته
إن شعور الجندي بأنه يقوم بالعمل المناسب له، يرفع، ولاشك، من روحة المعنوية، ومن شعوره بأنه يؤدي عملاً يتفق وميوله واستعداداته. وتحقيق ذلك ميسور، إذا تم التوزيع على أسس نفسية سليمة. كما يجب أن يوضح للجنود السبب في اختيارهم، للأعمال والمهن المختلفة، وأهمية المهنة التي يعمل فيها كل منهم، بمفرده أو مع جماعة معينة.
(هـ) قدِّر أعمال رجالك وكافئ المجتهدين منهم
إن تقديرك لأعمال رجالك، ومكافأة المجتهدين منهم، من أهم العوامل لرفع الروح المعنوية، وذلك إلى جانب بث روح التنافس بينهم، وتشجيعهم على إتقان أعمالهم.
(و) كن القدوة الحسنة والمثل الأعلى لرجالك
يهُم الجندي أن يشعر أن النواحي التي تعلمها ويؤديها، وأنواع السلوك التي يطالب بها، إنما هي صورة صادقة لما يقوم به رؤساؤه وقادته. فالقائد يجب أن يكون القدوة الحسنة لرجاله، فهم يضعونه في الصدارة، ويقلدونه ويقتبسون منه. بل إن في الأمثلة التي يضربها هو بنفسه في التضحية والفداء، وبذل الجهد، ما يوحي لرجاله بالاقتداء به، ومحاكاته وزيادة ثقتهم به.
(ز) أعرف رجالك
تعرّف على رجالك، وأهتم بأمور معيشتهم وأحوالهم ومشاكلهم، واحترمهم كرجال ذوي شخصية وكرامة، وكن أخاً رحيماً وصديقاً لهم، ولكن احترم رتبتك وشخصيتك، وكن حازماً مرهوباً محبوباً.
(4) العقوبات الانضباطية والمحافظة على الروح المعنوية
(أ) ومع أهمية الروح المعنوية في رفع مستوى الانضباط، إلاّ أنه يجب على القائد، عندما يلجأ إلى استخدام أُسلوب العقاب، لتقويم الشخص المنحرف، لكي يحافظ على الضبط والربط في وحدته، ألاّ يهمل الجانب المعنوي المصاحب لذلك.
ويجب الحفاظ دائماً على الانضباط القائم على التوجيه والتحفيز، وليس الخوف من العقاب. لذا، يلزم ألا يتصف القائد بالجمود (أي عدم المرونة) عند توقيع العقاب، حتى لا يصبح مجرد إجراء لا هدف منه (أي بلا تأثير أدبي).
فيجب عند توقيع الجزاء، أو إصدار الحكم في كل قضية، أن يتم ذلك وفقاً لظروفها الخاصة، وفي ضوء الأثر الأدبي، الذي تتركه لمصلحة الجماعة كلها.
ويجب ألا يغيب عن القادة خدمة الروح المعنوية، على أفضل وجه. فقد يكون توقيع الجزاء الصارم البعيد الأثر، أفضل سبيل لخدمة الروح المعنوية؛ وقد يكون من الأفضل، في معظم الحالات، استعمال الرأفة الاستثنائية.
وهناك القصة المشهورة عن "نابليون" عندما ما خرج بمفرده لتفقد "نقطة خارجية"، فوجد أحد الحراس مستغرقاً في النوم على الثلج، في نقطته، عند حافة الغابة.
وتنص القوانين العسكرية بصفة قاطعة أنّ على "نابليون" استدعاء ضابط الصف، قائد الحرس، ليضع المذنب تحت التحفظ الشديد، فيحاكم بمجلس عسكري، ثم يرمى بالرصاص.
فالجريمة الوحيدة التي لا تقبل فيها هوادة، سواء ارتكبت داخل القطر أم خارجه، هي هذه الجريمة، وفيها يوقع دائماً أشد العقاب، فلا سبيل للرحمة في قضية جندي يرتكب الجريمة المخزية، وهي تعريض أرواح زملائه للخطر، بسبب النوم في النقطة المكلف بحراستها.
لكن "نابليون"، رجل عبقري، والعباقرة كثيراً ما يلهمون القيام بأعمال لا تخطر على بال الرجل العادي. فما كان منه إلاّ أن التقط بندقية الحارس النائم فوضعها على كتفه، وأخذ يضرب الأرض بقدميه جيئة وذهاباً. فعلى هذا الوضع وُجِدَ الاثنان (نابليون والحارس)، عندما أتى ضابط الصف وبصحبته جندي الغيار، أي أن الحارس كان مستغرقاً في النوم، والإمبراطور يحرس النقطة.
قد يرى بعض الناس: أن سلوك "نابليون" كان خطأ. إذ أنه تغاضى عن تقصير فظيع ارتكبه حارس أثناء تأدية واجبه؟. هذا التقصير قد يؤدي إلى انهيار الانضباط في صفوف الجيش.
ولكن نابليون. وهو السيكولوجي الحصيف كان محقاً لدرجة تستوجب الدهشة. وقد علق أحد الجنرالات على هذا الحادث بقوله: "لم يكن أحد يعرف مقدار التعب، الذي يستولى على الجندي الذي يسير على قدميه طوال يومه أكثر من "نابليون" نفسه.
ولا يعرف أحد أكثر منه أيضاً أثر حكاية (نابليون) الذي حمل بندقية المذنب على كتفه، بدلاً من أن يطلب جماعة ضرب النار لإعدامه، عندما يتسامع بها الجند في المعسكر، وفي طوابير السير، في اليوم التالي، فإن تصرف "نابليون" قد جمع إلى العطف الصحيح، روح الدعابة".
ولم لا؟ فإن اهتمام "نابليون"، وينبغي أن يكون اهتمام كل قائد، هو أن يحصل من جنوده على أوفر نصيب، وأكبر قسط من القدرة على القتال والكفاية. ففي هذا الموقف قد هدته عبقريته، إلى أنه يستطيع تحقيق غرضه على أحسن صورة، بالطريقة التي اتبعها، بدلاً من تنفيذ الأحكام العسكرية بحرفيتها، وتعريض الجندي للإعدام.
لقد تغاضى عن نص القانون وحرفية الأحكام العسكرية، وترك الجندي على قيد الحياة، مع أن جزاءه كان الرمي بالرصاص.
ولا يحتاج المرء إلى قوة خيال، ليدرك التأثير المعنوي العظيم لهذه الحادثة، على جنود "نابليون". فلو طلب منهم الدخول فوراً في معركة، لقاتلوا قتال المستميت، ولكانت حماستهم مثار الدهشة للجميع، حتى لقائدهم الحصيف نفسه.
فأي جندي لا يقدم حياته بأتم رضى، في المعارك التي يديرها قائد كهذا؟ وهناك ظروف تفيد فيها الشهامة، ورحابة الصدر، والقائد الحكيم هو من يعمل على أن يفيد منها.
(ب) وغني عن البيان، أنه ينبغي عند التحاق المستجدين بالجيش، أن تُلقي عليهم محاضرة ودية، في موضوع "الضبط والربط" و"الجزاءات"، وما يمنحهم "قانون الجيش" من الحقوق والامتيازات.
ويجب توضيح الغرض من الجزاء بعناية تامة، وتبيان أن هذا الغرض تأديبي بحت، وليس انتقامياً.
(ج) ويجب على القائد، عند تطبيق الأحكام العسكرية، أن يسأل نفسه:
· (أولاً) هل ثمة ضرورة لتوقيع الجزاء في القضية المعروضة أمامه؟
· (ثانياً) إذا كان توقيع الجزاء ضرورياً فما هو أخف حكم يمكن توقيعه؟
(د) ويجب الحذر من توقيع الجزاءات الجماعية، لأن هذا إجراء محفوف بالخطر الشديد.
وسيكولوجية الجماعة تختلف كثيراً عن نفسية الأفراد، الذين تتألف منهم الجماعة. وعندما تعتقد الجماعة كلها أنها قد ظُلِمَت، تنبعث عناصر سيكولوجية خطيرة.
وكثيراً ما يكون الجزاء المشترك سبباً في وقوع جريمة جسيمة، إذ أنه يخلق ارتباطاً بين الرجال غايته الانتقام.
ويجب، أولاً وأخراً، عندما يتطلب الموقف توقيع العقوبات الانضباطية أو تنفيذ الأحكام العسكرية، التفكير في الروح المعنوية.
ب. روح الفريق
(1) روح الفريق حالة عقليه عاطفية للجماعة أو الوحدة. فالفرد يعتز ويتعصب بانتسابه لعائلته، ويشعر بمسؤولية نحوها، كما يشعر بالإخلاص الكبير لها، ويغار عليها، ويدافع عن سمعتها، وكيانها، فهذا هو روح الفريق أو الجماعة.
وهذه الحالة تنشأ وتنمو بين الفرد وجماعته ووحدته فيشعر:
(أ) بالاعتزاز بوحدته والفخر بها والتعصب لها.
(ب) الإخلاص والولاء لها، فيعمل على رفع مستواها، والدفاع عن سمعتها وكيانها.
(ج) الشعور بمسؤوليته وواجبه نحوها، لتبرز بين قريناتها من الوحدات الأخرى.
(2) وروح الفريق تتميز عن الروح المعنوية، في أن الروح المعنوية حالة تتعلق بالفرد نفسه فقط، أما روح الجماعة أو روح الفريق، فهو شعور الفرد بواجبه نحو المجموع (الجماعة أو الوحدة...إلخ)، ويعرفه البعض بأنه العمل الجماعي أو التعاون المتبادل، بين أفراد الجماعة أو الوحدة.
وكلّما كانت روح الفريق عالية، كانت الأهداف الجماعية للوحدة تحجب الأهداف الفردية للأفراد. وفي مثل هذه الحالة تقضي الروح العالية السائدة، للوحدة أو الجماعة، على التذمر أو التبرم الشخصي، من بعض الأفراد.
والوحدة ذات الروح الجماعية العالية، يمكنها أن تنجز مهمتها على الرغم مما يصادفها من مصاعب وعقبات.
وقد ثبت من تجارب الحروب، أن الافتخار والاعتزاز بالوحدة، مظهراً بارزاً من مظاهر الروح المعنوية العالية.
ولروح الفريق أثرها في رفع مستوى الضبط والربط بالوحدة، لأن كل فرد سيشعر أن الإهمال في أي ناحية من نواحي الضبط والربط، سيؤثر على سمعة وحدته أو جماعته، وسيتسبب عن ذلك ضرر كبير لمجهود زملائه في نجاح وحدتهم أو جماعتهم، فيحاول قدر طاقته أن يبتعد بنفسه عن كل ما يشين سمعتها، أو يقلل من قدرها، ومكانتها بين الوحدات أو الجماعات الأخرى.
(3) ستطيع القائد أن ينمي روح الفريق، داخل وحدته، إذا طبق النصائح التالية:
(أ) إلمام الجنود بتقاليد الوحدة وتاريخها المجيد
على القائد أن يوضح لجنوده تاريخ وحدته المجيد، والمعارك التي اشتركت فيها، والأبطال الذين أنبتتهم الوحدة، والأعمال التي قاموا بها، وأن عليهم جميعاً أن يراعوا هذه التقاليد، وأن يضيفوا إلى تاريخ وحدتهم صفحات ناصعة من المجد، والفخر، تخلد ذكراهم للأجيال القادمة، وبذلك تكون التقاليد عاملاً مهماً في حب الجنود لوحدتهم، والتفاني في خدمتها.
(ب) إشاعة روح التكاتف والترابط والصداقة، بين الجنود وقادتهم
يجب على القائد أن يعمل على تنمية روابط الأخوة والصداقة، بين أفراد وحدته.
فعلية أن يشعرهم أنهم أفراد أسرة واحدة، يربطهم رباط قوي متين من الأخوة، والصداقة، والمحبة، على الرغم من اختلاف لهجاتهم وأديانهم وبلدانهم.
كما يجب على القائد أن يشعر رجاله، أنه رب هذه الأسرة، يرعى مصالحهم، ويهتم بأمورهم، ويذلل مشاكلهم، وأنه يُعدّ نفسه أباً رحيماً، وأخاً مخلصاً لهم.
ولكن حذار أن يفقد القائد شخصيته، أو يقلل من هيبته، فيكون مصيره الفشل في قيادته.
(ج) بث روح التعاون والاتحاد
في الاتحاد قوة، وفي التفكك الضعف والفشل. فعلى القائد أن يُشعِر رجاله بأهمية تعاونهم، واتحادهم في سبيل نجاح وحدتهم، وعليه أن يُشعِر كل فرد في الجماعة أو الوحدة، أنه حجر مهم في بنائها وفي نجاحها، وأنه يصنع لنفسه ولوحدته هدفاً يسعون جميعاً لتحقيقه، ويتعاونون على الوصول إليه.
(د) استغلال مواهب الأفراد
على القائد أن يستغل مواهب الأفراد، كل فيما يمتاز به عن غيره، لخدمة وحدته والنهوض بمستواها، وأن يعمل على تشجيعهم على إظهار هذه المواهب في مختلف الأوقات، واستغلال ذلك في تنمية روح الفريق، وحب الوحدة، وأن يعمل على بث روح التنافس الشريف بينهم.
(هـ) إثارة حماس الجنود بالأناشيد العسكرية، وطوابير الاستعراض
من أهم العوامل التي تساعد على حب الأفراد لجماعاتهم ووحداتهم، طوابير الاستعراض، التي يشتركون فيها بأعلامهم الحربية، وبملابسهم العسكرية المميزة بشاراتها المختلفة، وبأناشيدهم العسكرية الخاصة بهم، بما يزيد في صلتهم وارتباطهم بهذه الصور الرمزية المعنوية للوحدة، التي ينتمون إليها، والتي تجعل الأفراد يدافعون في المعركة عن عَلَمْ وحدتهم، ويعملون على أن يبقى دائماً مرفوعاً لا تدنسه الهزيمة.
(و) البرامج والمباريات الرياضية
تُعد البرامج والمباريات الرياضية، من وسائل تقوية الروابط بين الأفراد في الوحدة العسكرية، ومن أهم العوامل التي تساعد على تنمية روح الفريق بينهم.
ج. التدريب
(1) التدريب مسؤولية رئيسية من مسؤوليات القائد، يجب أن يوليها كل اهتمامه. فليس له وظيفة أهم من هذه الوظيفة، في أوقات السلم، كما أنها أحد واجباته الرئيسية أثناء القتال، أيضاً، لأنها الوسيلة الوحيدة لخلق وحدة ذات كفاءة واستعداد قتالي، قادرة على تنفيذ مهامها القتالية.
(2) وإذا كانت الحرب هي المُعلم الأكبر، فإن التدريب الواقعي هو المُعلم الأول. ولأن القائد هو المسؤول الأول عن تدريب وحدته، لهذا أصبح لزاماً عليه أن يكون دائم التيقظ والانتباه، ذا نفوذ وتأثير قوي على مرؤوسيه، لبث روح الانضباط، والمهارة، والصبر، والحماس، وأن يولدّ الرغبة في رجاله للعمل، دائماً، كفريق متكامل متعاون.
(3) والتدريب الجيد ركن أساسي في رفع الروح المعنوية، وتحقيق الانضباط العالي بين الجنود. وبالتدريب تزداد ثقة الفرد في نفسه وقائده وسلاحه.
فالتدريب ينمي في الإنسان صفة الشجاعة، ورباطة الجأش في وقت الخطر، ويحقق الترابط والتوافق بين الجنود وقادتهم.
(4) ويعُد انتظام التدريب، وتنفيذ برامجه بدقة وأمانة، في توقيتاتها المحددة، من العوامل الرئيسية، التي تُسهم في بناء الضبط والربط، ورفع الروح المعنوية.
كما يستطيع القادة رفع مستوى الانضباط، عن طريق التوسع في محاضرات "الضبط والربط"، خاصة للجنود المستجدين، ودرج موضوعات "الضبط والربط" ضمن برامج التدريب.
ويعتمد نجاح التدريب على التوزيع الصحيح للأفراد، على الأعمال المختلفة (كل فرد في العمل المناسب له)، وعلى مدى تناسب أساليب التدريب وطرقه، مع خصائص وصفات ومستوى الأفراد.
الانضباط كلمة شائعة في حياتنا اليومية. يستخدمها الناس، عادة، للتعبير عن مدى إتباع النظام والالتزام به. ويستخدمها العسكريين للدلالة على كفاءة الجيوش وقدراتها، وعلى مدى نجاح القيادة وفعاليتها.
والانضباط يعنى الالتزام، وهو أمر ضروري للنجاح في كافة أوجه الحياة، وهو سر تقدم الأمم، ونجاح الأعمال في كافة أنواع التنظيمات، سواءً كانت عسكرية أم مدنية أم غيرها..
ويعتقد بعض الناس أن الانضباط يقترن "بالعقاب"، على أساس أنه الوسيلة الفّعالة لتحقيقه، ولكن مفهوم الانضباط أشمل من ذلك؛ فهو يعني إطاعة الأوامر والتعليمات، واحترام القواعد والقوانين، والتقيد بالنظام، والالتزام بالتقاليد والأعراف؛ وأنه من الأفضل ألاّ يُكتسب الانضباط من توقيع العقاب المستمر، ولكن بالتوجيه والنصح والإرشاد.
والانضباط في القوات المسلحة، بمثابة الروح في الجسد، وهو السّلاح الخفي الذي يحقق النصر في المعركة، والعنصر القوي في نزع الخوف وزرع الشجاعة في نفوس المقاتلين. وتتوقف كفاءة الجيوش وقدراتها، على مدى تحلّيها "بالانضباط" الجيد، لذا يهدف القادة العسكريين، دائماً، إلى تنمية روح الانضباط بين رجالهم، ويعتبرونها مسألة حياة أو موت.
ويخُطئ من يرى أن الانضباط مقصورُُ على القوات المسلحة، وينسى أن الدين الإسلامي الحنيف، هو دين انضباط في المقام الأول، فمثلاً:
· أليست الصلاة في أوقاتها، والاصطفاف خطاً متراصاً في صلاة الجماعة، واتبّاع الإمام، وعدم الخروج من الصلاة أو السبق في حركاتها، نوعاً من الانضباط؟
· أو ليس الصيام نوعاً من ضبط النفس الذاتي، والتحكم في الشهوات، والصيام في وقت محدد والإفطار في وقت محدد، نوعاً آخر من الانضباط؟
· والحج، مواقيته ومناسكه، أليس نوعاً من الانضباط؟
· أليست نظافة الجسم وعفة اللسان، وهي من الأساسيات في الدين، نوعاً من الانضباط؟
· أليس تحديد الدين الإسلامي للأُسلوب الصحيح، للتعامل بين أفراد المجتمع، صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، نوعاً من الانضباط في المعاملات؟
· إذاً فالدين الإسلامي الحنيف يحثنا على الانضباط، مظهراً وجوهراً.
وإذا انتقلنا من الدين إلى التربية في الأسرة، لوجدنا أن التربية السّليمة تقوم على الانضباط: احترام الصغير للكبير، وعطف الكبير على الصغير، تقبل التوجيه والنصح من الأكبر للأصغر، والسمع والإطاعة من الأصغر للأكبر، والترابط والالتفاف حول رب الأسرة، والدفاع عن كيانها.
أليس هذا كله نوعاً من الانضباط؟
لذلك يمكننا القول دائما: "إذا وجدت فرداً منضبطاً فاعلم أنه من أسرة عُنِيَتْ بتربيته التربية الصحيحة، ومن أسرة لها مبادئ وقيم وتقاليد. أسرة جديرة بالاحترام والتقدير. وخلاف ذلك صحيح".
ولا تقل أهمية وجود الانضباط في المنظمات المدنية، عنها في المنظمات العسكرية، بل هي أشد احتياجاً إلى وجود الانضباط. ويتوقف نجاح منظمات الأعمال بكافة أنواعها وأشكالها، سواء كانت إنتاجية أم خدمية أو غيرها، على مدى وجود "الانضباط" بين صفوف العاملين بها.
كما أن نجاح الإدارة في ممارستها لعملها، وتحقيقها لأهدافها يعتمد بدرجة كبيرة على مدى تحليها بروح الانضباط.
المبحث الأول
مفهوم الانضباط ونجاح القيادة العسكرية
أولاً: مفهوم الانضباط وسماته
الانضباط اصطلاح ذو مفهوم شامل، وهو وليد رياضة النفس على النظام، يحتوي على الكثير من السّمات والعادات والسّلوكيات الطيبة والحميدة، التي يتحلى بها الشخص، أو التي تسود داخل الجماعة.
ويخُتلف كثيرٌ في تعريف معنى الانضباط، إلا أن أغلب ما قيل في توضيح معناه، يدور في إطار المفهوم العام للانضباط.
ويمكن تعريف الانضباط ، بأنه الحالة العقلية والنفسية، التي تجعل الإطاعة والسّلوك الصحيح، أمراً غريزياً في النفس، مهماكانت الظروف. وهو يقوم على أساس الاحترام والولاء للسلطة القانونية.
وينشأ الانضباط أساساً من التربية السليمة، ويُصقل بالتدريب واكتساب العادات النبيلة.
ويُعَدّْ الانضباط مظهراً أساسياً من مظاهر الحياة العسكرية، ودلائله العامة في الرجل العسكري والوحدة العسكرية: النشاط والحيوية في المظهر، وفي أداء العمل، والنظافة، والأناقة في الملبس، والأمانة، والنظام، والبعد عن الفوضى، وحسن ترتيب المهمات وأماكن الإقامة، وحسن التصرف، وسمو الخلق وعفة اللسان، واحترام الرؤساء، وتنفيذ الأوامر والتعليمات، التي يصدرها الرؤساء بنصها وروحها، وبكامل الرضا، وفي أقصر وقت ممكن.
1. مفهوم الانضباط
أ. الانضباط: هو تدريب منظم، وتمرين، وتنمية، وضبط: للقوي العقلية، والمعنوية، والطبيعية، وهو نظام تعليم وضبط، يغرس في الذهن الخضوع للسلطة المقررة، وضبط النفس، والسلوك السوي المنتظم.
وفي توضيح آخر لمفهوم الانضباط: يعني الانضباط بمفهومه اللفظي، الجدية، والالتزام، والدقة، وحسن أداء الواجب، واحترام حقوق الآخرين، والقدرة على التمييز بين ما هو مشروع وجائز، وبين ما هو محظور وغير مباح.
ب. والقائد ذو "الانضباط الجيد" هو مَنْ يستطيع أن يؤثر في جماعة من الناس، كي تحافظ بنفسها، على النظام والانسجام.
ج. وغالباً ما يقع الالتباس بين معنى "الانضباط" ومعنى "الإجبار":
فالإجبار يستند في تنفيذه إلى السلطات المقررة: كالوالدين، والمعلم، والمدير، والحكومة. فهؤلاء يقولون: "عليك أن تعمل كذا وكذا وإلاّ! " فالسلطات المقررة تستطيع استخدام "العصا" (أي الوعيد بالأذى) مادياً، أو معنوياً، لتأييد أوامرها.
لكن أبسط تجارب الحياة أثبتت، أن تأثير الإجبار لا يدوم أكثر من دوام المقدرة على استخدام العصا، مادياً أو معنوياً.
د. وهناك فرق شاسع، بين "الانضباط" الذي يقيد النفس، ويوغر الصدر، وبين "الانضباط" الذي يكون حافزاً مفيداً. وأن ما ينشده الناس جميعاً هو "الانضباط الإيجابى" القائم على الاقتناع، وليس "الانضباط السلبي" القائم على الخوف من العقاب، وإنه لمن الأفضل ألاَّ يُكْتَسَبْ "الانضباط" من توقيع العقاب المستمر، ولكن بالتأثير في الأفراد ليفعلوا الصواب دائماً.
هـ. إن كفاءة المنظمات، على اختلاف أنواعها وأشكالها، عسكرية كانت أم مدنية، وقدرتها تتوقف على وجود "الانضباط" الجيد، وإنه لمن الأفضل أن يكون مصدر "الانضباط" في المنظمة، منبعثاً مما لدى الأفراد من "انضباط" قائم على الاقتناع، والرغبة في العمل، وليس على الرهبة، أو الخوف من العقاب. فالانضباط ينمو بإتباع أسلوب التوجيه والإرشاد والتعليم، وليس بالعقاب. فإذا كان الانضباط قائماً على التهديد بالعقاب فقط، اتجه الأفراد إلى التكاسل، والتحايل، حالما يحسّون أنهم في منأى من العقاب، أو انفضاح أمرهم.
وهكذا، يفقدون القدرة على الابتكار الشخصي، والأمانة، ويحتاجون إلى المراقبة الدائمة. ويقتضي الأمر أن "تسوقهم" بدلاً من أن "تقودهم".
وليس فيما تقدم إيحاء، بأن لا يُنتهج أسلوب العقاب في "الانضباط"، في جميع الحالات.
فإذا أسندت مقاليد منظمة ما، إلى شخص يقودها، ثم رأي ما يبعثه على الاعتقاد بأنه لا يسهل القبض على زمام أفرادها، وأن أسلوب الإقناع لم يجد الاستجابة التامة والتقدير من أفراد المنظمة، أصبح من الحكمة والسداد أن يواجههم مواجهة جريئة، ويغير سياسته، وأن يتخذ فوراً الموقف الحازم، حتى تنضبط الجماعة. وليس ثمة ضرر، إذا ظنوا به الشدة والعنف، إلى فترة من الزمن، فإذا ما أدركوا أن قائدهم رجل يعرف كيف ينهض بتبعته، وأنه قادر على قيادتهم بحزم وشدة، مع عطف ورأفة، كُلِّ في وقته، أصبح من السهل عليه إرخاء العنان وإطلاق الزمام.
على أنه يستطيع أن يجذبه مرة ثانية إذا اقتضى الأمر، ولكن ليس من المحتمل أن تلجئه الظروف إلى ذلك الإجراء.
ومن المهم أن نتذكر أننا لن نستطيع شد الزمام، إذا كنا قد سلمناه للجواد نفسه. ولهذا يجب أن لا تُترك هفوة واحدة دون تقويمها، ولا أن تقع مخالفة فردية دون المحاسبة عليها، ولا أن يسمح لأحد بأن يبيح لنفسه حرية ليست مقررة، بل يجب مؤاخذته عليها فوراً.
أما إذا تسامح القائد في هذه الأمور، أو غض الطرف عنها، خرج زمام الجماعة كلها من يده، في مدى أيام قليلة.
ولذلك، يجب مراقبة الهفوات الصغيرة، وأخذها بالعنف، فإن هذا يمنع كبيرها من الوقوع.
وهذا هو أهم درس يجب أن يعيه رجل "الانضباط".
فهناك ميل عام إلى إغفال المسائل الصغيرة، بدعوى إن الجماعة سوف تقدر هذه الإشارة الودية، وتتفادى التورط في الذنوب الكبيرة الخطرة.
ولكن هذه مغالطة لها أسوأ الأثر. فإذا وقعت في المنظمة جرائم خطيرة، كان ذلك من الأسباب التي ترجع إلى التغاضي عن الذنوب الصغيرة.
وعلى ذلك، فالقاعدة الذهبية لرجال "الضبط والربط" تتمثل في الآتي:
"عليك أن تُعنى بالأمور الصغيرة، فتعنى الأمور الكبيرة بنفسها".
2. سمات الانضباط
أ. الانضباط سمة من سمات الشعوب الراقية المتقدمة، ووجود الانضباط في مجتمع، دليل على تقدمه وازدهاره.
وانعدام الانضباط وإشاعة الفوضى في مجتمع، مؤشر على انحدار مستواه وتأخره.
والانضباط الذي يحقق التقدم والانطلاق، يقوم على أساس أن أداء الواجب يسبق، دائماً، طلب الحق، والالتزام بعدم الاستثناء في أي شيء، وفي أي مجال، وتحت أي ظرف: وترتبط إنتاجية كل المؤسسات والمنظمات، بمستوى انضباط كل العاملين بها، بدءاً من أقل رتبة بها، وانتهاءً بقياداتها.
ومما تقدم، فإن التحلي بالانضباط أصبح ضرورة من ضروريات حياة الشعوب. ومن دون الانضباط، لن تستطيع الشعوب ضمان إنجاز خططها التنموية، في كافة المجالات.
ب. لأن الفرد المنضبط، أساس المجتمع المنضبط، ومن ثم، يجب أن يتحلى الناس جميعاً بالانضباط. ولكي يكون الشخص مثالياً في الانضباط، يجب أن يتحلى بمجموعة من الصفات، التي منها ما يلي:
(1) القدرة على ضبط النفس
ضبط النفس من أهم الصفات، التي يجب أن يتحلى بها الشخص، الذي يتولى قيادة جماعة من الناس، أو يشرف عليهم. فالقائد الناجح ينبغي أن ينشد "الأسمى" من كل شيء.
وأسمى أنواع الانضباط، هو القدرة على ضبط النفس.
ويعني ضبط النفس القدرة على التحكم فيها وقت الشدائد، وترويضها والبعد عن الأهواء والأغراض.
(2) العمل بروح الفريق
إن الشخص الذي يتمتع "بروح الفريق" في العمل، يعتبر مثالياً في الانضباط.
كما أن القائد، الذي يعمل على بناء روح الفريق، يعتبر قائداً فعالاً. فعندما تسود "روح الفريق"، بين أعضاء أي جماعة، بحيث يشعر كل فرد بأنه وباقي الأفراد كشخص واحد، ينشأ من هذا باعث شخصي يمنع العضو داخل الجماعة من أن يرتكب ما يخالف القواعد، إذ أن المرء ـ عادة ـ لا يفعل شيئاً ضد نفسه.
كما أن إحساس الفرد أنه ضمن فريق واحد، وأنه جزء أساسي من وحدة متكاملة وقائمة بذاتها، وأنه مسؤول تماماً مثل باقي أعضاء الفريق، يُنمِّي لديه الرقابة الذاتية.
وكذلك لا يقترف أي فرد عن رضى، ما يغضب قائداً أو رئيساً يعرفه شخصياً، ويحترمه، ويقدّر قيمة الحصول على رضائه.
فالجماعة، إذن، تبدأ بالفرد الذي هو جزء منها.
ويجب أن يكون واضحاً، أن روح الفريق لا تنمو في الأفراد، إلاّ على احترام النفس وضبطها، والثقة بالنفس، ورياضة النفس (أخذها بالضبط والربط).
وعندما تتيقظ تماماً عاطفة الولاء للجماعة، يمكن التأثير على كل فرد فيها تأثيراً ناجحاً يُنمِّي تلك الصفات، ويجعل الإنسان يعمل أكثر من الواجب المفروض عليه بمقدار كبير.
لأن المجد والنجاح، الذي تدركه الجماعة، يعود على الأفراد الذين تتألف الجماعة منهم. ومما تقدم، يجب أن يكون الهدف الدائم للقادة والرؤساء، تنمية روح الفريق في مرؤوسيهم، حتى يكونوا أعضاءً مؤثرين في الجماعة.
(3) الروح المعنوية العالية
إن الروح المعنوية أقوي سلاح يتسلح به الإنسان، والروح المعنوية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانضباط، وهما صفتان معنويتان متلازمتان، وتؤثران تأثيراً مباشراً على التحفيز والروح القتالية.
ولا يكفي أن يتزود أي جيش مادياً، ولكن الأهم أن يؤَمَّنْ معنوياً وانضباطياً، وخير للجنود أن يخوضوا غمار المعركة يعوزهم التأمين المادي، على أن يخوضوها تنقصهم الروح المعنوية والانضباط. وفي الحروب يظهر الأثر الكبير للروح المعنوية والانضباط، فيستطيع كل طرف هزيمة خصمه، إذا نجح في تحطيم روحه المعنوية.
وقد أدركت ألمانيا هذه الحقيقة في الحرب العالمية الثانية.
ولا يمكن أن تتوفر الروح المعنوية بمعناها الصحيح، إذا لم توجد الثقة بالنفس، فالفرد لا بد أن
يشعر أنه متفوق مادياً وانضباطاً وتدريباً، حتى ترتفع روحه المعنوية.
ومما تقدم، يتضح أن الشخص الذي يؤدي عمله بروح معنوية عالية، يتمتع بانضباط عال. وأنه لا انضباط من دون روح معنوية عالية، ولا معنويات مرتفعة من دون انضباط.
والقائد الفعال، هو الذي يعتني بالروح المعنوية والانضباط.
(4) الأخلاق العالية
الانضباط أخلاق عالية، وتقاليد سامية، تقوم على الشجاعة والشرف، والتفاني في أداء الواجب، والصبر، والحزم، والحسم، والأمانة، وإنكار الذات، والمقدرة على مواجهه الحقائق.
وتتنافى مع الكذب والرياء والنفاق. والأخلاق يجب أن تكون عماد الشخصية، فالشخص الذي له من الأخلاق نسبة مائة في المائة، ومن الذكاء خمسون في المائة، أوفر حظاً ممن ذكاؤه مائة في المائة، وخلقه خمسون في المائة فقط.
والشخص الذي يشذ في عاداته قد يستطيع أن يحرز جانباً من محبة بعض الناس، إذ إِنه يستهوي أحط غرائزهم، بما يبديه لهم من تشجيع، ولكنه لن يحصل على ثقة واحترام جماعة كبيرة من الرجال المهذبين.
(5) الثقافة العامة
صفة أساسية يجب أن يتحلى بها الناس جميعاً، خاصة القادة منهم، ومن يتولى الرئاسة أو الإشراف على جماعة من الناس، فالثقافة العامة هي المدرسة الحقيقية لغرس الانضباط.
(6) القدوة والمثل
يجب أن يتحلى القائد أو (الرئيس)، في أي موقع من مواقع العمل، بالانضباط، وأن يكون القدوة والمثل لمرؤوسيه في كل تصرف يقوم به.
فالقائد ذو الانضباط الجيد يتمتع مرؤوسيه بروح الانضباط العالي، وخلاف ذلك صحيح. ففاقد الشيء لا يعطيه. والقائد يمكن أن يصل إلى غايته، في التأثير في نفوس مرؤوسيه، واكتساب ثقتهم ـ ما لم يراع ـ قواعد خاصة يمليها الإدراك السليم.
ومن المألوف أن تحتفظ الجماعة بانطباعاتها الأولى عن قائدها، مهما كانت حظ هذه الانطباعات.
(7) التفاني في العمل
التفاني في العمل أحد المظاهر الأساسية، لوجود "الانضباط" في المنظمة.
ويحب الإنسان عمله، ويخلص ويتفانى فيه، إذا توافق مع قدراته وإمكانياته.
لذا، يُعد "وضع الرجل المناسب في المكان المناسب" العامل الأساسي لنجاح الإنسان، في عمله.
( إطاعة الأوامر
إطاعة الأوامر وتنفيذ التعليمات، وإتباع القواعد التنظيمية، هي جوهر "الانضباط" في المنظمة.
ويتوقف نجاح الانضباط على مدى إمكانية تنفيذ الأوامر.
فالشخص الذي تضطره الحالة إلى أن يعصي أمراً لا يستطاع تنفيذه، يميل بوجه السرعة بعد ذلك إلى عدم إطاعة الأمر، الذي يستطع تنفيذه.
ويؤكد على ذلك المقولة الشهيرة (إذا أردت أن تُطاع، فمر بما يستطاع).
وبناء على ما تقدم، أصبح واضحاً، أن أفضل أنواع "الانضباط" يكون وليد الاعتبارات التالية:
(1) عندما يعرف "القائد" الأشخاص، الذين تتألف منهم "جماعته".
(2) عندما يعرف أفراد الجماعة، "قائدهم".
(3) عندما يدمج القائد نفسه في جماعته، بكل الطرق الممكنة.
(4) عندما تكون الجماعة كلها فريقاً واحداً، يتلقى الحماسة من روح القائد.
(5) عندما يكون للجماعة مستوى عال من "روح الفريق"، في العمل.
(6) عندما يكون الفريق حسن التدريب، متقد الحماسة، ملحوظ الكفاية.
فإذا أمكن استيفاء هذه الشروط، (وليس استيفاؤها بالأمر المستحيل) اختفت المخالفات، وتحقق الانضباط القائم على الثواب وليس العقاب، وأصبح الأفراد متحمسين للعمل، وزاد تقدم الجماعة نحو تحقيق أهدافها.
ثانياً: الانضباط ونجاح القيادة العسكرية
قامت الجيوش العظيمة في الماضي، على ثلاث صفات أساسية، لم تنقص أهميتها في الوقت الحاضر. وستظل هذه الصفات، دائماً، الأساس الذي يقوم عليه بناء الجيوش القوية القادرة، مهما بلغت الأسلحة والمعدات من تطور تقني.
وهذه الصفات هي: "الانضباط" و"الروح المعنوية" و"روح الفريق".
ويأتي الانضباط على قمة هذه الصفات.
ويُعد وجوده في المنظمات العسكرية، الأساس لنجاح القيادة وفعاليتها، والمحرك الأساسي لدفع المنظمة نحو تحقيق أهدافها المنشودة، والعامل الرئيسي الحاكم في تحقيق الكفاءة العسكرية.
والتسمية الشائعة للانضباط، في محيط العمل العسكري، هو "الضبط والربط". فماذا يعني الضبط والربط عند العسكريين؟ وما مقوماته؟ وما أهم مظاهرة؟ وما العوامل التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط؟
1. مقومات الضبط والربط وأهم مظاهرة
أ. معنى الضبط والربط العسكري
(1) الضبط والربط العسكري هو: إقامة الأوامر وطاعتها بروح قوية، عن تعود واقتناع. أي الإطاعة والسلوك الغريزي السليم تحت كل الظروف، وتتضمن السيطرة على إرادة الفرد لصالح المجموع.
والضبط والربط العسكري، امتداد وتطبيق خاص للنظام، في أي هيئة أو جماعة منظمة. والضبط والربط الحقيقي يتطلب إطاعة القائد، عن تعود وإقناع. هذه الإطاعة التي تؤدي، إذا أحسن ممارستها والتدريب عليها، إلى التصرف السليم حتى في غيبة الأوامر، أو القائد دون أي رقيب.
(2) ونجاح الضبط والربط، يتوقف على فهم القائد لأفراد فريقه أو جماعته، ومعرفة كيفية التعامل معهم، وكيف يكسب ثقتهم، وكيف يعمل على تنمية روح الفريق فيهم، وكيف يغرس الضبط والربط فيهم، وكيف يرفع روحهم المعنوية، وكيف يجعل من أفراد جماعته وحده متماسكة صلبه قوية متعاونة.
فإذا وُجد القائد الجيد، زاد الانضباط، وسلِمت روابط الكيان العسكري، وارتفعت، الروح المعنوية.
إن من واجب كل قائد أن يغرس في أذهان مرؤوسيه روح الضبط والربط؛ وأن المثل الأعلى، الذي يضربه القادة على اختلاف مستوياتهم بصفة مستمرة، من أهم الوسائل في بناء الضبط والربط.
ب. مقومات الضبط والربط العسكري
لا يمكن أن يوجد الانضباط بمعناه الصحيح، إلا إذا توفرت المقومات التالية:
(1) الطاعة
(أ) الإطاعة ركن أساسي من أركان الضبط والربط. ويُقْصَدْ بها الإطاعة التامة المبنية على اقتناع الأفراد بالعادات والتقاليد العسكرية، التي تؤدي إلى التصرف السليم.
ولا يتأتى ذلك إلا إذا تعود الفرد على أداء هذه العادات، والتقاليد، والتصرفات، بطريقة غريزية صحيحة.
ويمكن للقائد أن يغرس في نفوس الأفراد هذه العادات، والتقاليد، بشرح مسبباتها، والدوافع إليها، ثم توضيح أحسن الطرق لأدائها. وبالتكرار الصحيح، ومعالجة أي خطأ في الحال، تصبح هذه العادات والتقاليد غريزة طبيعية، تؤدَى عن اقتناع ورغبة، لا عن خوف ورهبة.
(ب) إن نجاح القائد في غرس عادة إطاعة الأوامر العسكرية، في نفوس رجاله، تعتمد على مدى تدريبه وتعليمه لهم. لذا، يجب تعليم الجندي تعليماً وافياً كيف يؤدي عملاً ما، قبل أن يؤمر بأدائه. فالجندي بطبيعته يندفع نحو إطاعة الأمر، الذي يستطيع تنفيذه.
(ج) ولأن الجهل بمعرفة الأوامر لا يقُبل عذراً في عدم إطاعتها، ولأنه ليس من المعقول أن نتوقع من الجندي حديث العهد بالخدمة العسكرية، أن يتوصل إلى معرفة كل شيء من تلقاء نفسه؛ لذلك تقع على القادة مسؤولية كبرى، في وصول المعرفة بالأوامر للرجال تحت قيادتهم، ومساعدتهم على تكوين عادة البحث عن الأمور، التي يجب عليهم الإلمام بها.
(د) من غير إطاعة لا توجد قيادة. فالإطاعة أوجب الواجبات، ومن دونها لا تنعقد سلسلة القيادة، ولا يكون هناك ضبط وربط. الإطاعة إذن واجب لا هوادة فيه.
وخير مثال على ذلك القائد خالد "ابن الوليد" أمير الجيوش المسلمة التي تأتمر بأمره، يشير إليها فتنهال على العدو، ويظل يتنقل بها من نصر إلى نصر، حتى إذا أتاه أمر الخليفة بأن ينزل عن القيادة، صدع بالأمر في الحال، واتخذ مكانة في الصفوف، تحت إمرة القائد الجديدّ.
(2) القدوة الحسنة
كيفما يكون القائد يكون الجنود.
لذا، يجب أن يتحلى القادة على كافة المستويات بالضبط والربط. فإذا كان القائد قدوة حسنة لرجاله، ويضرب لهم المثل الأعلى في الضبط والربط، فإن رجاله، دون شك، سيقلدونه، ويتخذون منه مثلهم الأعلى، في كل عمل يؤدونه.
(3) المدح والاستحسان وتقدير الفرد
إن إظهار الاستحسان والمدح من القائد لرجاله، سواء كان فردياً أو جماعياً، لو أُحْسِنَ أداء العمل، يؤثر في تقوية أواصر الضبط والربط.
والفرد إذا شعر بأن له قيمته، وأن القائد يقدر شعوره، فإنه يتقبل كل ما يؤمر به، ويشعر بالثقة في نفسه، وفي قادته، وفي الأوامر الصادرة إليه.
(4) الثواب والعقاب
(أ) يتطلب الضبط والربط أن يؤدى كُلٍ واجبه على أحسن وجه، ويمكن أن تغرس الحاجة إلى الضبط والربط في الفرد، بالالتجاء إلى إحساسه وإدراكه، وذلك بأن يكون الضبط والربط مشوقاً إليه.
وفي الحالات القليلة التي لا يفلح فيها الالتجاء إلى إدراكه، يكون الالتجاء إلى العقاب، الذي يجعل الفرد يقدّر الحاجة إلى الضبط والربط.
(ب) ويجب أن يشعر الجندي دائماً، أنه بمحافظته على الضبط والربط، يكون موضع تقدير ومكافأةً من قائده، وأن إهماله في تنفيذ الضبط والربط يعرضه للعقاب.
وهنا يجب أن يقتصر العقاب على من يستحقه فقط، ويجب تجنب المبدأ الخاطئ "الظلم يعم".
وفيما يختص بموضوع العقاب (الجزاء)، يجب أن نتذكر أن الأشخاص الذين نقودهم ونتولى تدبير شؤونهم، هم رجال أكتمل نضجهم، وليسوا أطفالاً لم يستتموا نموهم.
وإن توقيع العقاب هو أخطر إجراء يقوم به الرجل تجاه رجل آخر، والموضوع يستحق أن يتناوله المرء بالحذر الشديد.
وقد وضع "بكاريا"، السنن الآتية عن الجريمة والعقاب، وهي تنطبق مع العصر الذي وضعت فيه، كما أنها تنطبق على العصر الحالي:
(أ) إن أضمن رادع للجريمة، هو تأكد المجتمع من توقيع العقاب، وليس مدى شدته.
(ب) إن البلاد التي اشتهرت بقسوة العقاب، تكون دائماً البلاد التي تقع فيها أفظع الجرائم الدموية والآثام غير الإنسانية، حيث تكون يد القاتل ويد المشرع كلاهما، مُسَيرَّتَان بالروح الوحشية.
(ج) العقاب المعجَّل، هو أنجح القصاص.
(د) كثيراً ما تكون القوانين نفسها، سبباً لارتكاب الجرائم.
(هـ) إن مكافأة الفضيلة تمنع الجريمة.
(5) تحديد الواجبات والمسؤوليات
من أهم مقومات الضبط والربط، مراعاة الفروق الفردية عند تصنيف الأفراد وتوزيعهم على المهن المختلفة المطلوبة، وتحديد الواجبات والمسؤوليات، مع عدم تجاوز طاقة الأفراد وقدراتهم.
ج. أهم مظاهر الضبط والربط العسكري
من أهم مظاهر الضبط والربط العسكري:
(1) السلوك الفردي الصحيح للجنود، داخل وخارج، الثكنات والمعسكرات.
(2) المظهر الحسن للأفراد، والمحافظة على الأوامر والتعليمات الخاصة باللبس، واحترام شعار الجندية وشرفها.
(3) المظهر الحسن للثكنات والمعسكرات.
(4) الإطاعة الغريزية للأوامر، وتجنب التردد في تنفيذها.
(5) كفاءة الجنود في تأدية واجباتهم.
(6) احترام الجنود لرؤسائهم وزملائهم.
(7) المحافظة على الأسلحة والمعدات وصيانتها.
( التصرف السليم، وأداء الواجب بإخلاص، في غيبة الرقيب.
(9) تقبل الجنود للتقاليد العسكرية، والابتعاد عن العادات المدنية السابقة.
2. العوامل التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط العسكري
من أهم العوامل، التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط، داخل المنظمات العسكرية ما يلي:
أ. الروح المعنوية
(1) الروح المعنوية حالة نفسية عقلية وعاطفية، تجعل الفرد يظهر شعوره الخفي في نفسه، فتراه أحياناً قانعاً هانئاً سعيداً، وتراه تارة تعساً يائساً شقياً.
فالصحة، ورضا الله ثم الناس، وراحة الضمير، وخدمة الوطن عن إيمان وعقيدة، من أهم عوامل القناعة، والشعور بالسعادة والنشاط والأمل. والظلم، والخطر، والقلق من أهم العوامل التي تجعل الفرد يشعر باليأس والقنوط، وتجعله عديم الهمة قليل النشاط ولا أمل له.
وتُعد الروح المعنوية من أهم عوامل النصر.
فهي التي تبعث الإيمان بالنصر، والقوة على التغلب على المصاعب والعقبات، وتولّد العزيمة الجبارة التي تواجه الموت بصدر رحب، في سبيل العقيدة الراسخة، والإيمان الثابت، والمبادئ السامية.
(2) إن العامل الأساسي، الذي يكفل المحافظة على الضبط والربط، هو "الروح المعنوية". فالعامل المعنوي يخلق الضبط والربط بين صفوف المقاتلين. ومن واجبات القائد رفع الروح المعنوية التي تؤثر في رفع مستوى الضبط والربط.
ويمكن أن نتعرف على الروح المعنوية العالية بالآتي:
(أ) الحماس
هو المجهود الذي يقدمه الرجال متطوعين، لأداء أعمالهم، بدافع قوي يفوق الإطاعة التي يسودها قلة الاهتمام، وعدم الاكتراث، والتهاون، والتكلف، والإطاعة، التي يكون مصدرها الأوامر والتنظيمات فقط.
(ب) الإحساس بقيمة الفرد.
(ج) اعتزاز الفرد بما يكلف به من عمل، في أي مهمة.
(3) للروح المعنوية أثرها الكبير في رفع مستوى الضبط والربط، داخل المنظمات العسكرية. وكلّما ارتفعت الروح المعنوية، ارتفع مستوى الضبط والربط.
ويستطيع القائد أن يخلق الروح المعنوية وينميها داخل وحدته، إذا اتبع التوجيهات الآتية:
(أ) اجعل جنودك يرغبون في الخدمة العسكرية:
ابعث في جنودك روح الإيمان بالخدمة العسكرية، وقيمة الجندي، وشرف الانتساب للجندية، وواجب كل فرد في أداء ضريبة الدم في سبيل عقيدته ووطنه، الذي ترعرع على أرضه، ونعم بنعيمه، وأنه لا بد لكل أمة من جيش يحميها، ويصد عنها أعداءها.
إن الجندي العربي جندي يثق في تعاليمه الدينية، والدين يحث على الجهاد، والقتال في سبيل الله والوطن، وفي سبيل الحق، بما يدفع الجندي للتضحية وأداء الواجب.
كما أن ذكر سير الأبطال الفاتحين فيه ما يلهب حماسة الجندي، ويشجعه على تقبل الخدمة العسكرية.
(ب) اجعل جنودك يفهمون معنى التقاليد، والمظاهر، والأوامر العسكرية الصارمة
اشرح لجنودك معنى الحياة العسكرية، فهم لابُدّ أن يفهموا سبب قسوتها وخشونتها، ويجب أن يفهموا لِم تصدر الأوامر من آن لآخر، ولِم يجب إطاعتها دون تردد.
فإذا اقتنع الجندي بكل هذا، تقبل هذه الأوامر والتقاليد بروح قوية، وإطاعة تامة مقبولة في نفسه، وإذا ما تبين للجنود السبب، تولدت فيهم الثقة بالقائد، ونمت فيهم روح الإطاعة عن رغبة وإقناع، وشعروا بأنهم أفراد يتعاونون في تحقيق هدف موحد، وليسوا آلات مُسَخَرة.
(ج) اجعل جنودك يثقون بأنفسهم، وسلاحهم، وتدريبهم، وقادتهم
اعتن بتدريب جنودك، واكسبهم ثقة بأنفسهم، وبأنهم أحسن الجنود، وأن تدريبهم يتمشى مع أحدث الأساليب، وأن سلاحهم من أحدث الأسلحة في الحروب.
(د) تخير العمل المناسب لكل جندي، وبث فيه روح الاهتمام بعملة، والإخلاص لوحدته
إن شعور الجندي بأنه يقوم بالعمل المناسب له، يرفع، ولاشك، من روحة المعنوية، ومن شعوره بأنه يؤدي عملاً يتفق وميوله واستعداداته. وتحقيق ذلك ميسور، إذا تم التوزيع على أسس نفسية سليمة. كما يجب أن يوضح للجنود السبب في اختيارهم، للأعمال والمهن المختلفة، وأهمية المهنة التي يعمل فيها كل منهم، بمفرده أو مع جماعة معينة.
(هـ) قدِّر أعمال رجالك وكافئ المجتهدين منهم
إن تقديرك لأعمال رجالك، ومكافأة المجتهدين منهم، من أهم العوامل لرفع الروح المعنوية، وذلك إلى جانب بث روح التنافس بينهم، وتشجيعهم على إتقان أعمالهم.
(و) كن القدوة الحسنة والمثل الأعلى لرجالك
يهُم الجندي أن يشعر أن النواحي التي تعلمها ويؤديها، وأنواع السلوك التي يطالب بها، إنما هي صورة صادقة لما يقوم به رؤساؤه وقادته. فالقائد يجب أن يكون القدوة الحسنة لرجاله، فهم يضعونه في الصدارة، ويقلدونه ويقتبسون منه. بل إن في الأمثلة التي يضربها هو بنفسه في التضحية والفداء، وبذل الجهد، ما يوحي لرجاله بالاقتداء به، ومحاكاته وزيادة ثقتهم به.
(ز) أعرف رجالك
تعرّف على رجالك، وأهتم بأمور معيشتهم وأحوالهم ومشاكلهم، واحترمهم كرجال ذوي شخصية وكرامة، وكن أخاً رحيماً وصديقاً لهم، ولكن احترم رتبتك وشخصيتك، وكن حازماً مرهوباً محبوباً.
(4) العقوبات الانضباطية والمحافظة على الروح المعنوية
(أ) ومع أهمية الروح المعنوية في رفع مستوى الانضباط، إلاّ أنه يجب على القائد، عندما يلجأ إلى استخدام أُسلوب العقاب، لتقويم الشخص المنحرف، لكي يحافظ على الضبط والربط في وحدته، ألاّ يهمل الجانب المعنوي المصاحب لذلك.
ويجب الحفاظ دائماً على الانضباط القائم على التوجيه والتحفيز، وليس الخوف من العقاب. لذا، يلزم ألا يتصف القائد بالجمود (أي عدم المرونة) عند توقيع العقاب، حتى لا يصبح مجرد إجراء لا هدف منه (أي بلا تأثير أدبي).
فيجب عند توقيع الجزاء، أو إصدار الحكم في كل قضية، أن يتم ذلك وفقاً لظروفها الخاصة، وفي ضوء الأثر الأدبي، الذي تتركه لمصلحة الجماعة كلها.
ويجب ألا يغيب عن القادة خدمة الروح المعنوية، على أفضل وجه. فقد يكون توقيع الجزاء الصارم البعيد الأثر، أفضل سبيل لخدمة الروح المعنوية؛ وقد يكون من الأفضل، في معظم الحالات، استعمال الرأفة الاستثنائية.
وهناك القصة المشهورة عن "نابليون" عندما ما خرج بمفرده لتفقد "نقطة خارجية"، فوجد أحد الحراس مستغرقاً في النوم على الثلج، في نقطته، عند حافة الغابة.
وتنص القوانين العسكرية بصفة قاطعة أنّ على "نابليون" استدعاء ضابط الصف، قائد الحرس، ليضع المذنب تحت التحفظ الشديد، فيحاكم بمجلس عسكري، ثم يرمى بالرصاص.
فالجريمة الوحيدة التي لا تقبل فيها هوادة، سواء ارتكبت داخل القطر أم خارجه، هي هذه الجريمة، وفيها يوقع دائماً أشد العقاب، فلا سبيل للرحمة في قضية جندي يرتكب الجريمة المخزية، وهي تعريض أرواح زملائه للخطر، بسبب النوم في النقطة المكلف بحراستها.
لكن "نابليون"، رجل عبقري، والعباقرة كثيراً ما يلهمون القيام بأعمال لا تخطر على بال الرجل العادي. فما كان منه إلاّ أن التقط بندقية الحارس النائم فوضعها على كتفه، وأخذ يضرب الأرض بقدميه جيئة وذهاباً. فعلى هذا الوضع وُجِدَ الاثنان (نابليون والحارس)، عندما أتى ضابط الصف وبصحبته جندي الغيار، أي أن الحارس كان مستغرقاً في النوم، والإمبراطور يحرس النقطة.
قد يرى بعض الناس: أن سلوك "نابليون" كان خطأ. إذ أنه تغاضى عن تقصير فظيع ارتكبه حارس أثناء تأدية واجبه؟. هذا التقصير قد يؤدي إلى انهيار الانضباط في صفوف الجيش.
ولكن نابليون. وهو السيكولوجي الحصيف كان محقاً لدرجة تستوجب الدهشة. وقد علق أحد الجنرالات على هذا الحادث بقوله: "لم يكن أحد يعرف مقدار التعب، الذي يستولى على الجندي الذي يسير على قدميه طوال يومه أكثر من "نابليون" نفسه.
ولا يعرف أحد أكثر منه أيضاً أثر حكاية (نابليون) الذي حمل بندقية المذنب على كتفه، بدلاً من أن يطلب جماعة ضرب النار لإعدامه، عندما يتسامع بها الجند في المعسكر، وفي طوابير السير، في اليوم التالي، فإن تصرف "نابليون" قد جمع إلى العطف الصحيح، روح الدعابة".
ولم لا؟ فإن اهتمام "نابليون"، وينبغي أن يكون اهتمام كل قائد، هو أن يحصل من جنوده على أوفر نصيب، وأكبر قسط من القدرة على القتال والكفاية. ففي هذا الموقف قد هدته عبقريته، إلى أنه يستطيع تحقيق غرضه على أحسن صورة، بالطريقة التي اتبعها، بدلاً من تنفيذ الأحكام العسكرية بحرفيتها، وتعريض الجندي للإعدام.
لقد تغاضى عن نص القانون وحرفية الأحكام العسكرية، وترك الجندي على قيد الحياة، مع أن جزاءه كان الرمي بالرصاص.
ولا يحتاج المرء إلى قوة خيال، ليدرك التأثير المعنوي العظيم لهذه الحادثة، على جنود "نابليون". فلو طلب منهم الدخول فوراً في معركة، لقاتلوا قتال المستميت، ولكانت حماستهم مثار الدهشة للجميع، حتى لقائدهم الحصيف نفسه.
فأي جندي لا يقدم حياته بأتم رضى، في المعارك التي يديرها قائد كهذا؟ وهناك ظروف تفيد فيها الشهامة، ورحابة الصدر، والقائد الحكيم هو من يعمل على أن يفيد منها.
(ب) وغني عن البيان، أنه ينبغي عند التحاق المستجدين بالجيش، أن تُلقي عليهم محاضرة ودية، في موضوع "الضبط والربط" و"الجزاءات"، وما يمنحهم "قانون الجيش" من الحقوق والامتيازات.
ويجب توضيح الغرض من الجزاء بعناية تامة، وتبيان أن هذا الغرض تأديبي بحت، وليس انتقامياً.
(ج) ويجب على القائد، عند تطبيق الأحكام العسكرية، أن يسأل نفسه:
· (أولاً) هل ثمة ضرورة لتوقيع الجزاء في القضية المعروضة أمامه؟
· (ثانياً) إذا كان توقيع الجزاء ضرورياً فما هو أخف حكم يمكن توقيعه؟
(د) ويجب الحذر من توقيع الجزاءات الجماعية، لأن هذا إجراء محفوف بالخطر الشديد.
وسيكولوجية الجماعة تختلف كثيراً عن نفسية الأفراد، الذين تتألف منهم الجماعة. وعندما تعتقد الجماعة كلها أنها قد ظُلِمَت، تنبعث عناصر سيكولوجية خطيرة.
وكثيراً ما يكون الجزاء المشترك سبباً في وقوع جريمة جسيمة، إذ أنه يخلق ارتباطاً بين الرجال غايته الانتقام.
ويجب، أولاً وأخراً، عندما يتطلب الموقف توقيع العقوبات الانضباطية أو تنفيذ الأحكام العسكرية، التفكير في الروح المعنوية.
ب. روح الفريق
(1) روح الفريق حالة عقليه عاطفية للجماعة أو الوحدة. فالفرد يعتز ويتعصب بانتسابه لعائلته، ويشعر بمسؤولية نحوها، كما يشعر بالإخلاص الكبير لها، ويغار عليها، ويدافع عن سمعتها، وكيانها، فهذا هو روح الفريق أو الجماعة.
وهذه الحالة تنشأ وتنمو بين الفرد وجماعته ووحدته فيشعر:
(أ) بالاعتزاز بوحدته والفخر بها والتعصب لها.
(ب) الإخلاص والولاء لها، فيعمل على رفع مستواها، والدفاع عن سمعتها وكيانها.
(ج) الشعور بمسؤوليته وواجبه نحوها، لتبرز بين قريناتها من الوحدات الأخرى.
(2) وروح الفريق تتميز عن الروح المعنوية، في أن الروح المعنوية حالة تتعلق بالفرد نفسه فقط، أما روح الجماعة أو روح الفريق، فهو شعور الفرد بواجبه نحو المجموع (الجماعة أو الوحدة...إلخ)، ويعرفه البعض بأنه العمل الجماعي أو التعاون المتبادل، بين أفراد الجماعة أو الوحدة.
وكلّما كانت روح الفريق عالية، كانت الأهداف الجماعية للوحدة تحجب الأهداف الفردية للأفراد. وفي مثل هذه الحالة تقضي الروح العالية السائدة، للوحدة أو الجماعة، على التذمر أو التبرم الشخصي، من بعض الأفراد.
والوحدة ذات الروح الجماعية العالية، يمكنها أن تنجز مهمتها على الرغم مما يصادفها من مصاعب وعقبات.
وقد ثبت من تجارب الحروب، أن الافتخار والاعتزاز بالوحدة، مظهراً بارزاً من مظاهر الروح المعنوية العالية.
ولروح الفريق أثرها في رفع مستوى الضبط والربط بالوحدة، لأن كل فرد سيشعر أن الإهمال في أي ناحية من نواحي الضبط والربط، سيؤثر على سمعة وحدته أو جماعته، وسيتسبب عن ذلك ضرر كبير لمجهود زملائه في نجاح وحدتهم أو جماعتهم، فيحاول قدر طاقته أن يبتعد بنفسه عن كل ما يشين سمعتها، أو يقلل من قدرها، ومكانتها بين الوحدات أو الجماعات الأخرى.
(3) ستطيع القائد أن ينمي روح الفريق، داخل وحدته، إذا طبق النصائح التالية:
(أ) إلمام الجنود بتقاليد الوحدة وتاريخها المجيد
على القائد أن يوضح لجنوده تاريخ وحدته المجيد، والمعارك التي اشتركت فيها، والأبطال الذين أنبتتهم الوحدة، والأعمال التي قاموا بها، وأن عليهم جميعاً أن يراعوا هذه التقاليد، وأن يضيفوا إلى تاريخ وحدتهم صفحات ناصعة من المجد، والفخر، تخلد ذكراهم للأجيال القادمة، وبذلك تكون التقاليد عاملاً مهماً في حب الجنود لوحدتهم، والتفاني في خدمتها.
(ب) إشاعة روح التكاتف والترابط والصداقة، بين الجنود وقادتهم
يجب على القائد أن يعمل على تنمية روابط الأخوة والصداقة، بين أفراد وحدته.
فعلية أن يشعرهم أنهم أفراد أسرة واحدة، يربطهم رباط قوي متين من الأخوة، والصداقة، والمحبة، على الرغم من اختلاف لهجاتهم وأديانهم وبلدانهم.
كما يجب على القائد أن يشعر رجاله، أنه رب هذه الأسرة، يرعى مصالحهم، ويهتم بأمورهم، ويذلل مشاكلهم، وأنه يُعدّ نفسه أباً رحيماً، وأخاً مخلصاً لهم.
ولكن حذار أن يفقد القائد شخصيته، أو يقلل من هيبته، فيكون مصيره الفشل في قيادته.
(ج) بث روح التعاون والاتحاد
في الاتحاد قوة، وفي التفكك الضعف والفشل. فعلى القائد أن يُشعِر رجاله بأهمية تعاونهم، واتحادهم في سبيل نجاح وحدتهم، وعليه أن يُشعِر كل فرد في الجماعة أو الوحدة، أنه حجر مهم في بنائها وفي نجاحها، وأنه يصنع لنفسه ولوحدته هدفاً يسعون جميعاً لتحقيقه، ويتعاونون على الوصول إليه.
(د) استغلال مواهب الأفراد
على القائد أن يستغل مواهب الأفراد، كل فيما يمتاز به عن غيره، لخدمة وحدته والنهوض بمستواها، وأن يعمل على تشجيعهم على إظهار هذه المواهب في مختلف الأوقات، واستغلال ذلك في تنمية روح الفريق، وحب الوحدة، وأن يعمل على بث روح التنافس الشريف بينهم.
(هـ) إثارة حماس الجنود بالأناشيد العسكرية، وطوابير الاستعراض
من أهم العوامل التي تساعد على حب الأفراد لجماعاتهم ووحداتهم، طوابير الاستعراض، التي يشتركون فيها بأعلامهم الحربية، وبملابسهم العسكرية المميزة بشاراتها المختلفة، وبأناشيدهم العسكرية الخاصة بهم، بما يزيد في صلتهم وارتباطهم بهذه الصور الرمزية المعنوية للوحدة، التي ينتمون إليها، والتي تجعل الأفراد يدافعون في المعركة عن عَلَمْ وحدتهم، ويعملون على أن يبقى دائماً مرفوعاً لا تدنسه الهزيمة.
(و) البرامج والمباريات الرياضية
تُعد البرامج والمباريات الرياضية، من وسائل تقوية الروابط بين الأفراد في الوحدة العسكرية، ومن أهم العوامل التي تساعد على تنمية روح الفريق بينهم.
ج. التدريب
(1) التدريب مسؤولية رئيسية من مسؤوليات القائد، يجب أن يوليها كل اهتمامه. فليس له وظيفة أهم من هذه الوظيفة، في أوقات السلم، كما أنها أحد واجباته الرئيسية أثناء القتال، أيضاً، لأنها الوسيلة الوحيدة لخلق وحدة ذات كفاءة واستعداد قتالي، قادرة على تنفيذ مهامها القتالية.
(2) وإذا كانت الحرب هي المُعلم الأكبر، فإن التدريب الواقعي هو المُعلم الأول. ولأن القائد هو المسؤول الأول عن تدريب وحدته، لهذا أصبح لزاماً عليه أن يكون دائم التيقظ والانتباه، ذا نفوذ وتأثير قوي على مرؤوسيه، لبث روح الانضباط، والمهارة، والصبر، والحماس، وأن يولدّ الرغبة في رجاله للعمل، دائماً، كفريق متكامل متعاون.
(3) والتدريب الجيد ركن أساسي في رفع الروح المعنوية، وتحقيق الانضباط العالي بين الجنود. وبالتدريب تزداد ثقة الفرد في نفسه وقائده وسلاحه.
فالتدريب ينمي في الإنسان صفة الشجاعة، ورباطة الجأش في وقت الخطر، ويحقق الترابط والتوافق بين الجنود وقادتهم.
(4) ويعُد انتظام التدريب، وتنفيذ برامجه بدقة وأمانة، في توقيتاتها المحددة، من العوامل الرئيسية، التي تُسهم في بناء الضبط والربط، ورفع الروح المعنوية.
كما يستطيع القادة رفع مستوى الانضباط، عن طريق التوسع في محاضرات "الضبط والربط"، خاصة للجنود المستجدين، ودرج موضوعات "الضبط والربط" ضمن برامج التدريب.
ويعتمد نجاح التدريب على التوزيع الصحيح للأفراد، على الأعمال المختلفة (كل فرد في العمل المناسب له)، وعلى مدى تناسب أساليب التدريب وطرقه، مع خصائص وصفات ومستوى الأفراد.
sidali attari- عضو جديد
- عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : -1
تاريخ التسجيل : 13/07/2010
رد: الانضباط العسكري
موضوع شيق للغاية ذكرتني أيام التدريب صح الإنظباط له سمة خاصة في التغيير الجذري للفرد العسكري خاصة في العقاب الذي يجعل الفرد يحس بلذة الإنظباط حتى في الحياة المدنية فأنا أعتر الإنظباط سلوك أخلاقي بحت شكرا لصاحب الموضوع تشكر جزيل الشكر
سليمان grtiy- عضو جديد
- عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 14/12/2012
العمر : 40
الموقع : بئر خادم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى